يحمل كل واحد منا في ذاكرته وجسده ذلك الطفل الذي عاشه وما زال مستمرا في حياته بأشكال مختلفة تأبى أن تنحل أو تبلغ "سن الرشد". ولعل ما يغني تلك الذاكرة الطفولية/ الطفلة هو ركام التقاليد الجميلة التي دأب آباؤنا على احترامها وترسيخها أو تلك التي صنعناها بأيدينا وأرجلنا و"عرق جبيننا".
هكذا، كانت للأيام طعم حقيقي. كانت أياما مليئة بالحياة، ولكل يوم برنامجه وطقسه المميز عن باقي الأيام، كانت أيام العطل عطلا حقيقية ننسج فيها علاقة وطيدة مع فضاءات المدينة أو القرية التي ينحدر منها آباؤنا وأمهاتنا. كما كانت علاقتنا مع الأصدقاء أو "الأعداء" من أقراننا مليئة بالمواقف الجميلة التي يمتزج فيها حب الاستطلاع مع الشغب الجميل و"البدائي" مقارنة مع شغب طفولة القرن الحادي والعشرين.
فمن منا لم يتلذذ بحكايات الجدات وقصص الخوارق والأبطال والأنبياء التي كانت تروى في ساحات المدن العتيقة والأسواق الشعبية في المدينة أو البادية؟ من منا لم يسبح في عوالم تخييلية جميلة عند سماعه حكايات ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي زين وعنترة بن شداد وسفينة النبي نوح وقصة النبي موسى وأطوار علاقته مع فرعون..؟ من منا لم يحرص على قراءة جميع قصص القسم التي كنا نتبادلها أو نكتريها بسنتيمات زهيدة كانت قيمتها غالية من حيث تنمية خيالنا وتحبيب النصوص الأدبية إلينا؟
بالتأكيد، لقد كنا أطفالا نعيش العهد الكتابي المكتوب في الوقت الذي احتضن العهد الرقمي أطفال اليوم حتى أن الأنترنيت وألعاب الفيديو التهموا جزءا كبيرا منهم، بحيث لم يعد الكتاب عندهم سوى ضرورة مدرسية يفرضها المقرر وكفى !
ذلك أن استبعاد العلاقة مع الكتاب بصفة عامة، والكتاب الأدبي بصفة خاصة، يؤدي إلى قتل الخيال عند الطفل وجعله رهينا لعوالم تقنية لا خيال فيها ! من ثمة، فإن قطع صلة الطفل بالأدب يقود إلى قطع صلته بالذاكرة الكبيرة للإنسانية، بعد أن تنقطع صلته كذلك بهويته الثقافية والحضارية.
إن الاطلاع على المتخيل الأدبي الوطني والقومي ينمي الخيال الفردي ويزوده بذخيرة حية تخصب قدرته على تصور عوالم جديدة والاطلاع على مواقف مختلفة للوجود الإنساني في بعده الكوني. والحالة أن التقنية لا خيال لها سوى ما تمت برمجته مسبقا ! ترى هل سيحصر خيال أطفال القرن الحادي والعشرين فيما أبدعه مهندسو الاتصالات ومصممو ألعاب الفيديو والرسوم المتحركة الرخيصة؟
ومن خلال ملاحظة طفولة اليوم، يبرز أمام أعيننا الموت الجاثم على صدور ومحيط أطفالنا الذين قتلت المدينة المتوحشة فيهم خلايا الحياة وقطعت صلتهم بها، فيما ارتمى بعضهم في أحضان حياة افتراضية مع لعب الفيديو و"محادثات" الأنترنيت الحبلى بالنفاق والكذب والادعاء التي تصل حد النصب والاحتيال.
لم يعد أغلب الأطفال يعرفون طعم لعب كرة القدم في "ملاعب" رملية، ولا مشاهدة مباريات حية في ملاعب الأحياء ولا يقضون عطلهم عند أجدادهم وجداتهم أو أعمامهم.. في البوادي والقرى الجبلية أو الصحراوية... إلا من له حظ عظيم. لم يعد الأطفال يجمعون النقود سنتيما سنتيما للذهاب جماعة لمشاهدة شريط سينمائي أو لاقتناء كتاب أو مجلة..
إن إنقاذ خيال الأطفال من الموت يتطلب الاحتفاء بالأدب وبالكتاب الأدبي التخييلي من قصص وروايات وحكايات ومحكيات مما قد يشكل الترياق المنقذ من التقنية العمياء.